السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
بسم لله الرحمن الرحيم
الاستخارة
(فهد بن عبد الله الزهراني)
الحمد لله مغيث المستغيثين، ومجيب دعوة المضطرين، ومسبل النعم على الخلق أجمعين، عظم حلمه فستر، وبسط يده بالعطاء فأكثر، نعمه تتْرى، وفضله لا يحصى، من أناخ بباب كرمه ظفر، وأزال الضر عنه وجبر ما انكسر، إليه وحده ترفع الشكوى، وهو المقصود وحده في السر والنجوى، سبحانه وسع سمعه الأصوات، باختلاف اللغات، على تفنن الحاجات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، مجيب الدعوات، وفارج الكربات، ومجزل النعم على البريّات، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، أصدق العباد قصداً، وأعظمهم لربه ذكراً وخشية وتقوى، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله الأتقياء وأصحابه الأصفياء، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين أما بعد:
عنْ جابر بْن عبْداللّه رضي اللّه عنْهما قال: كان رسول اللّه صلّى اللّهم عليْه وسلّم يعلّمنا الاسْتخارة في الأمور كلّها كما يعلّمنا السّورة من الْقرْآن. يقول « إذا همّ أحدكمْ بالأمْر فلْيرْكعْ ركْعتيْن منْ غيْر الْفريضة، ثمّ ليقل اللّهمّ إنّي أسْتخيرك بعلْمك وأسْتقْدرك بقدْرتك وأسْألك منْ فضْلك الْعظيم فإنّك تقْدر ولا أقْدر وتعْلم ولا أعْلم وأنْت علام الْغيوب، اللّهمّ إنْ كنْت تعْلم أنّ هذا الأمْر خيْرٌ لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمْري -أوْ قال عاجل أمْري وآجله- فاقْدرْه لي ويسّرْه لي ثمّ باركْ لي فيه، وإنْ كنْت تعْلم أنّ هذا الأمْر شرٌّ لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمْري -أوْ قال في عاجل أمْري وآجله- فاصْرفْه عنّي واصْرفْني عنْه واقْدرْ لي الْخيْر حيْث كان ثمّ أرْضني »، قال ويسمّي حاجته.
مفردات الحديث:
الاستخارة: طلب الخيرة في شيء، وهي استفعال من الخير أو من الخيرة -بكسر أوله وفتح ثانيه- بوزن العنبة-، واسم من قولك خار الله له ، واستخار الله: طلب منه الخيرة، وخار الله له: أعطاه ما هو خير له، والمراد: طلب خير الأمرين لمن احتاج إلى أحدهما.
قال في عاجل أمر وآجله: هذا شك من الراوي، وأي يقول هذا أو هذا، وجاء في بعض الراويات الجمع بينهما بلفظ: وعاقبة أمري وعاجله وأجله.
يسمي حاجته: أي يذكرها بدل قوله (أنّ هذا الأمْر) كأن يقول: اللهم إن كنت تعلم أن عملي في المكان الفلاني خير لي … إلخ.
التعليق على الحديث:
واعلم أن "العبد يحتاج في فعل ما ينفعه في معاشه و معاده إلى علم ما فيه من المصلحة وقدرته عليه وتيسيره له -وليس له من نفسه شيء من ذلك، بل علمه ممن علم الإنسان ما لم يعلم، وقدرته منه، فإن لم يقدره عليه وإلا فهو عاجز، وتيسيره منه فإن لم ييسره عليه وإلا فهو بعد إقداره-، أرشده النبي صلى الله عليه وسلم إلى محض العبودية وهو جلْب الخيرة من العالم بعواقب الأمور وتفاصيلها وخيرها وشرها، وطلب القدرة منه، فإنه إن لم يقدره وإلا فهو عاجز، وطلب فضله منه، فإن لم ييسره له ويهيئه له وإلا فهو متعذر عليه، ثم إذا اختاره له بعلمه وأعانه عليه بقدرته ويسره له من فضله فهو يحتاج إلى أن يبقيه عليه ويديمه بالبركة التي يضعها فيه، والبركة تتضمن ثبوته ونموّه، وهذا قدر زائد على إقداره عليه وتيسيره له، ثم إذا فعل ذلك كله فهو محتاج إلى أن يرضيه به، فإنه قد يهيأ له ما يكرهه فيظل ساخطاً، ويكون قد خار الله له فيه ".
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: ما ندم من استخار الخالق، وشاور المخلوقين، وثبت في أمره. وقد قال سبحانه وتعالى: { فبما رحْمة مّن اللّه لنت لهمْ ولوْ كنْت فظّاً غليظ الْقلْب لانْفضّواْ منْ حوْلك فاعْف عنْهمْ واسْتغْفرْ لهمْ وشاورْهمْ في الأمْر فإذا عزمْت فتوكّلْ على اللّه إنّ اللّه يحبّ الْمتوكّلين } [آل عمرا ن:159]، وقال قتادة: ما تشاور قوم يبتغون وجه الله إلا هدوا إلى أرشد أمرهم.
قال النووي رحمه الله تعالى: باب الاستخارة والمشاورة:
والاستخارة مع الله، والمشاورة مع أهل الرأي والصلاح، وذلك أن الإنسان عنده قصور أو تقصير، والإنسان خلق ضعيفاً، فقد تشكل عليه الأمور، وقد يتردد فيها فماذا يصنع.
طرق الاستخارة
الطريق الأول: استخارة رب العالمين عز وجل الذي يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف يكون.
الطريق الثاني: استشارة أهل الرأي والصلاح والأمانة، قال سبحانه وتعالى: { وشاورْهمْ في الأمْر }، وهذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، وقال سبحانه وتعالى: { فاعْف عنْهمْ واسْتغْفرْ لهمْ وشاورْهمْ في الأمْر فإذا عزمْت فتوكّلْ على اللّه إنّ اللّه يحبّ الْمتوكّلين } [آل عمرا ن:159]، وكان النبي صلى الله عليه وسلم هو أسد الناس رأياً و أصوبهم صواباً، يستشير أصحابه في بعض الأمور التي تشكل عليه، وكذلك خلفاؤه من بعده كانوا يستشيرون أهل الرأي والصلاح.
شروط الاستشارة
أن يكون ذا رأي وخبرة في الأمور وتأن وتجربة وعدم تسرّع.
أن يكون صالحاً في دينه؛ لأن من ليس صالحً في دينه ليس بأمين، وفي الحديث عن أنس بْن مالك رضي الله عنه يقول إنّ رسول اللّه صلّى اللّهم عليْه وسلّم قال: «لا إيمان لمنْ لا أمانة له ولا دين لمنْ لا عهْد له »، لأنه إذا كان غير صالح في دينه فإنه ربّما يخون والعياذ بالله، ويشير بما فيه الضرر، أو يشير بما لا خير فيه، فيحصل بذلك من الشر ما لله به عليم.
ما هو المقدّم: المشورة أو الاستخارة؟
أختلف العلماء هل المقدم المشورة أو الاستخارة، والصحيح ما رجّحه الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله (شرح رياض الصالحين) أن التقديم أولاً الاستخارة، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: « إذا همّ أحدكمْ بالأمْر فلْيرْكعْ ركْعتيْن.. »إلى أخره، ثم إذا كررتها ثلاث مرات ولم يتبين لك الأمر، فاستشر، ثم ما أشير عليك به فخذ به وإنما قلنا: إنه يستخير ثلاث مرات، لأنه من عادة النبي صلى الله عليه وسلم أنه إذا دعا دعا ثلاثاً، وقال بعض أهل العلم أنه يكرر الصلاة حتى يتبين له للإنسان خير الأمرين.
بعض فوائد الاستخارة
قال عبد الله بن عمر: " إن الرجل ليستخير الله فيختار له، فيسخط على ربه، فلا يلبث أن ينظر في العاقبة فإذا هو قد خار له ". وفي المسند من حديث سعد بن أبي وقاص عن النبي صلى الله عليه وسلم: « من سعادة ابن آدم استخارته الله تعالى، ومن سعادة ابن آدم رضاه بما قضاه الله، ومن شقوة ابن آدم تركه استخارة الله عز وجل، ومن شقوة ابن آدم سخطه بما قضى الله »، قال ابن القيم فالمقدور يكتنفه أمران: الاستخارة قبله، والرضا بعده. وقال عمر بن الخطاب: "لا أبالي أصبحت على ما أحب أو على ما أكره، لأني لا أدري الخير فيما أحب أو فيما أكره".
فيا أيها العبد المسلم لا تكره النقمات الواقعة والبلايا الحادثة، فلربّ أمر تكرهه فيه نجاتك، ولربّ أمر تؤثره فيه عطبك، قال سبحانه وتعالى: { وعسى أن تكْرهواْ شيْئاً وهو خيْرٌ لّكمْ وعسى أن تحبّواْ شيْئاً وهو شرٌّ لّكمْ واللّه يعْلم وأنْتمْ لا تعْلمون } [البقرة:216]، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "ما ندم من استخار الخالق، وشاور المخلوقين، وثبت في أمره، والله تعالى أعلم".
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
(نقلاً عن موقع طريق الإسلام)